إفلات ناهبي المال العام من العقاب
إفلات ناهبي المال العام من العقاب
شهدت بريطانيا في الفترة الأخيرة ما سمي بفضيحة التنصت التي اتهمت فيها واحدة من أشهر صحف الملياردير روبرت مردوخ، فقد سعت منذ عشرة أعوام تقريبا إلى التنصت على اتصالات
حوالي أربعة آلاف شخص، بينهم سياسيون وأعضاء في الأسرة الملكية ومشاهير، وذلك في إطار سعيها إلى أن تحقق باستمرار السبق الصحافي.
ليس المهم أن نستعرض تداعيات هذه الفضيحة وتفاصيلها، لكن المهم أنه بمجرد ما أعلنت، وقعت العديد من الأحداث المثيرة، منها:
- استقالة كل من قائد الشرطة ورئيس جهاز مكافحة الإرهاب في بريطانيا، وهما على الرغم من تأكيد كل واحد منهما لبراءته، فإنه تحمل المسؤولية السياسية لما وقع في الجهاز الذي يرأسه.
- مثول مردوخ وابنه أمام «لجنة الثقافة والإعلام والرياضة» في جلسة استماع بثتها قنوات التلفزيون مباشرة.
- استقالة آندي كولسون، مدير المكتب الإعلامي لرئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، لوجود اتهامات له بالضلوع في فضيحة التنصت.
ليست حالات استقالة مسؤولين أو متابعتهم ومحاكمتهم قليلة في الدول الديمقراطية. ونذكر فقط أن الرئيس الفرنسي جاك شيراك، الذي حكم فرنسا لمدة أربعة عشر عاما، بدأت محاكمته، بمجرد ما انتهت مدة رئاسته، في ملف قديم يرجع إلى الفترة التي كان فيها عمدة لباريس. ومن الأمثلة المشهورة أن وزير الخارجية الفرنسي آلان جوبيه، والذي كان رئيس وزراء أثناء حكم الرئيس شيراك، اضطر في مرحلة سابقة -لما كان عمدة لمدينة بوردو- إلى الاستقالة من منصبه، وكان السبب في ذلك أنه قد حكم عليه سنة 2004م بكونه غير مؤهل قانونيا للترشح في الانتخابات البرلمانية، أما التهمة فهي أنه استغل منصبه لمساعدة ابنه لاكتراء سكن ضمن مساكن شعبية مخصصة لذوي الدخل المحدود. هذا الحكم اضطر آلان جوبيه إلى تقديم استقالته من العمادة واختار النفي الاختياري في كندا لمدة عام حتى هدأت الأمور.
في بلادنا، تقع الكثير من التجاوزات والكثير من الكوارث في تدبير العديد من الملفات، وتطفو على السطح، وتكتب عنها الصحافة، وتثار في جلسات برلمانية، لكن لم يسبق أن قدم مسؤول واحد استقالته، ولا استعفى، على الأقل، ليتيح الفرصة للتحقيق الشفاف والنزيه. ولو أخذنا بمعيار ما وقع لآلان جوبيه، لكان من الواجب، في تصوري، محاكمة عشرات المسؤولين المغاربة ومنع العديدين من الترشح في الانتخابات.
فقد أثار فاعلون سياسيون التجاوزات في تفويتات العقار العمومي، وهي تفويتات تتم لمصلحة أطراف معينة ومقاولات خاصة، بأثمنة بخسة، دون المرور عبر مزاد علني ودون شفافية. وقد اشتكى من ذلك العديد من المستثمرين وأثاره صحفيون وطالب برلمانيون بلجنة لتقصي الحقائق بشأنه... وتفجرت فيه ملفات بعينها بوثائق، وصمد جميع المسؤولين في كراسيهم.
وفضح المجلس الأعلى للحسابات في تقريره السنوي لسنة 2009، الصادر في 20 أبريل 2011، واقع التدبير المفوض ورصد جملة من التجاوزات والاختلالات التي تقوم بها هذه الشركات المفوضة إليها خدمات، خاصة في مجال الماء والكهرباء والصرف الصحي. لقد كشف التقرير، مثلا، أن أداء شركة «ليدك» في الدار البيضاء لم يكن مطابقا - خلال العشر سنوات الأخيرة - لمقتضيات عقد التفويض، وأن أحياء كاملة زودت بماء مشبع بالصدأ بسبب قنوات الفولاذ الرمادي العتيقة التي تسرب مادة الصدأ في الماء الصالح للشرب، كما أن ما يفوق ثلاثين مشروعا لم يتم إنجازها فيما تأخر إنجاز مشاريع أخرى بشكل كبير، بالإضافة إلى ضبط مداخيل مخصصة للصندوق لم يتم تسجيلها من لدن «ليدك» واختلالات تدبيرية ومالية أخرى.
وبخصوص شركة «ريضال» في الرباط سلا تمارة الصخيرات، فإن التقرير قد سجل عدم مصداقية المعلومات المقدمة من قبل «ريضال» في ما يخص إنجاز الاستثمارات، مشيرا إلى اختلالات مهمة تشوب قنوات التواصل وتؤثر على صحة المعلومات المنقولة إلى السلطة المفوضة، كما أوضح التقرير أنه في سنة 2008 بلغت حالات انقطاع الكهرباء غير المبررة 17714 حالة، وهو ما يلزم شركة «ريضال» بأداء ما قيمته 2.813.456 درهما، لكن السلطة لم تطبق أي جزاء.
وبالنسبة إلى شركة «أمانديس» في طنجة، فقد أكد التقرير أنها لم تحترم البنود المتعاقد عليها في ما يخص أداء تكاليف الربط، ولم تشرع في تنفيذ حوالي 264 مشروعا استثماريا كانت قد تمت برمجتها خلال الفترة الممتدة ما بين 2002 و2008، وتم توظيف أجانب بطرق غير قانونية وبتكاليف مالية كبيرة. هذا غيض من فيض ما يتضمنه التقرير من اختلالات، وكل اختلال منها كان كافيا لاستقالة أو إعفاء أو إجراء متابعة أو، على الأقل، فتح تحقيق معمق.
لكن الإفلات من المساءلة بقي هو سيد الموقف، مما يشي بأن التغيير المرتقب لا يزال بعيدا. وعلى مدى تاريخ المغرب المعاصر، أفلت كثير من ناهبي المال العام من المساءلة. وهناك قضايا تشكلت فيها لجان برلمانية لتقصي الحقائق، مثل القرض العقاري والسياحي والصندوق الوطني الضمان الاجتماعي وأحداث كديم إيزيك، لكن مسببي الضرر للوطن والمواطنين في تلك الملفات بقوا دون حساب.
وثمن هذا الوضع غال جدا، إنسانيا ومجتمعيا وديمقراطيا وتنمويا. وكل حديث عن الإصلاح دون التوقف عن سياسة عدم المساءلة ووضعية اللاعقاب غير مجد، بل يشجع أكثر على الفساد ويوفر له الحماية. واحتجاجات المواطنين في كل مكان هي، في حقيقتها، ضد بقاء المفسدين والناهبين في مواقعهم دون أن يحاسبوا عن جرائمهم. وما لم يتم ذلك، فإن الاحتجاج سيبقى لأن أسبابه باقية.
سعد الدين العثماني
http://www.almassae.press.ma/node/27626
تحميل تقرير المجلس الأعلى للحسابات لسنة 2009
http://www.filesonic.com/file/1519410361
http://www.filesonic.com/file/1519412891
A découvrir aussi
- Tachycardie, nausée : le bruit des éoliennes, nocif pour la santé ?
- Restauration : Bientôt la première e-franchise marocaine
- Google Drive porte à 15Go son stockage gratuit en ligne
Inscrivez-vous au site
Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour
Rejoignez les 63 autres membres